ثورة أم صحوة؟.. بين تغيير النظام وإصلاح المجتمع 1 - د/ رفيق حبيب

0
2012

الورقـة الأولــى / 


تبلور مشهد الثورة الشعبية في مصر، كغيرها من دول الربيع العربي، حول مطالب عامة توافق
عامة الناس عليها، ووجهت تلك المطالب نحو السلطة السياسية والدولة. وكشفت إرهاصات ما قبل الثورة
الشعبية، عن تزايد المطالب والمظالم الشعبية، وتزايد رقعة ضحايا النظام السابق، بدرجة جعلت أغلب
الناس تعاني من سياسات النظام السابق، إلا قلة محدودة، والتي تمثل النظام ومؤيديه والمتعاونين معه.
ومع تراكم حالة الغضب تجاه النظام السياسي، تبلور هدف الثورة الشعبية في أيامها الأولى، نحو تغيير
النظام. فأصبح شعار الشعب يريد اسقاط النظام، يختزل حالة الثورة كلها.
فالمجتمع أدرك أنه ضحية النظام، لذا رأى أن النظام هو سبب ما حدث للدولة والمجتمع، وسبب
كل ما يحدث من مظالم وتردي لأحوال المعيشة. فتوجهت جماهير الثورة نحو الأمل في حياة كريمة
وعدالة اجتماعية وحرية، ورأت أن اسقاط النظام يحقق لها آمالها. وتركزت توجهات عامة الناس حول
تغيير السلطة الحاكمة، ومن ثم تغيير النظام السياسي، على أساس أن هذا التغيير كافي في حد ذاته لتحقيق
أهداف الثورة، التي هي مطالب عامة الناس. ورغم التباين بين المطالب الشعبية للفئات المختلفة من
المجتمع، إلا أن الكل ركز على فكرة تغيير النظام، لتحقيق ما يصبو له من أحلام.


صحوة عابرة


في اللحظات الأولى للثورة، ظهر المجتمع متماسكا وقويا، لدرجة أنه قام بعملية تأمين منظم
لحياته، من خلال اللجان الشعبية، والتي قامت بدور الدولة بكفاءة لافتة للنظر، وتكرر هذا المشهد خاصة
في تونس ثم مصر. وكأن المجتمع حاول أن يثبت لنفسه، أنه قادر على حماية نفسه بدون النظام الذي
يطالب بإسقاطه، وربما أيضا بدون الدولة التي أصبحت حاضنة للنظام.
ومع سقوط جهاز الشرطة في مصر، حاول عامة الناس إثبات أنهم في غنى عن جهاز الشرطة،
أو أن غياب الشرطة لن يخيفهم. وكأنهم بهذا، يؤكدون على رفضهم للنظام الحاكم، وذراعه القوية المتمثلة
في جهاز الشرطة، وأنهم قادرون على حماية أنفسهم لاستكمال مسيرة اسقاط النظام. فإذا كان النظام
الحاكم قد هدد بحدوث الفوضى، فإن عامة الناس ردت على هذا التهديد بفعل عملي، حيث حمت البلاد من
الفوضى، حتى يسقط النظام. فعامة الناس لم تكسر فقط حاجز الخوف، ولكنها تعاملت بإيجابية مع لحظات
الثورة، حتى تنجح، وتفشل كل محاولات جر الثورة إلى حالة فوضى، قد تنهي الثورة وتفشلها.
ولكن تلك الصحوة لم تتوقف فقط على عملية الحفاظ على الأمن في أيام الثورة، فبعد سقوط رأس
النظام الحاكم، حدثت حالة من السعادة الإيجابية والفاعلة، فخرج الناس ينظفون الميادين والشوارع،
ويحاولون القيام بأي دور إيجابي، وكانت تلك رسالة ذات مغزى. فعامة الناس أرادوا أن يؤكدوا لأنفسهم
أن العيب ليس فيهم، بل في النظام، وأن كل سلبياتهم التي غابت في لحظات الثورة وفي ميادين الثورة،
ذهبت مع سقوط النظام.
لقد أراد الضحية التبرؤ مما حدث في زمن النظام السابق، وأراد التأكيد على أن كل السلبيات
تعود لسياسات النظام السابق، وأن المجتمع كله والشعب كله، ضحية للنظام السابق. وبهذا أصبح مشهد
التفاعل الإيجابي أثناء الثورة، وحتى سقوط رأس النظام، ثم في الأيام الأولى بعد سقوط النظام، يمثل حالة
فعل إيجابي ثوري في وجه النظام. فعامة الناس عندما استعادة امكانياتها الذاتية، وأخرجت قيمها
وتقاليدها، استطاعت أن تباشر فعلا جماعيا منظما في أيام الثورة، أخرج في الحقيقة صورة المجتمع
المصري، الذي يفترض عامة الناس أنها صورته الحقيقية. فظهر المجتمع متماسكا ومترابطا، ومتمسكا
بالتقاليد والقيم. ورأى الجميع أن هذه الصورة تمثل حقيقة المجتمع المصري، ليؤكدوا لأنفسهم أن المجتمع
كان ضحية النظام السابق، وأن سقوط النظام كان كافيا ليعود المجتمع لرشده وقيمه وفاعليته، فلا يكسر
حاجز الخوف فقط، بل ويتجاوز الاحتقان الاجتماعي وأسباب الفرقة، ويتجاوز أيضا السلبية والسلوكيات
المرفوضة التي تفشت فيه.
فكانت رسالة المجتمع للنظام، أنه قادر على الاستغناء عنه، وأنه قادر ايضا على الاستغناء عن
جهاز الشرطة، أو حتى الدولة كلها، وأنه ليس مجتمعا سلبيا تنتشر فيه الانحرافات، بل أنه كان ضحية
لهذا النظام، وأن زوال النظام كافي لحل كل المشكلات. فإذا كانت الثورة في حد ذاتها تمثل فعلا إيجابيا
متميزا، فكل ما صاحبها وتبعها في الأيام الأولى، كان أيضا تصرفا إيجابيا فاعلا.
ولكن تلك الصحوة الكبيرة لم تستمر كثيرا، بل توارت سريعا بعد تحقق الهدف الذي بدى مركزيا
في الثورة، وهو سقوط النظام. فعندما سقط رأس النظام، عاد المجتمع في أغلبه لنفس الممارسات السلبية
السابقة، وكأنه لم يعد في حاجة لتغيير سلوكياته، لأن رأس النظام قد سقط بالفعل. وكأن تلك الحالة
الإيجابية كانت نوعا من المواجهة مع النظام، ولم تكن استفاقة اجتماعية حقيقية، ولم تكن صحوة ثقافية
وحضارية.
ولم تعد فقط الممارسات السلبية، بل عادت المطالب الفئوية، والتي شكلت وقود الثورة، وكأن
عامة الناس اسقطوا النظام، حتى يأتي نظام آخر يحقق مطالبهم. واستمرت بذلك نفس العلاقة التي كانت
قائمة بين المجتمع والدولة قبل الثورة، حيث الدولة تمثل السلطة كلها، والمجتمع يطالب الدولة بما يحتاج.
صحيح أن حاجز الخوف كسر بالفعل، ولم يعد الخوف من السلطة يمثل عائقا أمام حركة عامة الناس،
وظل الناس في حالة احتجاج فئوي أو عام، ضد أي سلطة لا تحقق مطالبهم، ولكن الدور الإيجابي للناس
توارى، أو غاب. فإذا كان عامة الناس بعد الثورة، لم تعرف ماذا عليها أن تفعل، أي لم تعرف بعد دور
المجتمع وعامة الناس في صنع المستقبل؛ فإن عودة كل الظواهر السلبية التي كانت موجودة قبل الثورة
مرة أخرى، وبصورة أكبر، وربما أضيفت عليها سلبيات جديدة، مثل تحديا لكل مطالب عامة الناس
ورغبتهم في التغيير والإصلاح.
فالصحوة لم تكن مؤقتة فقط، بل أعقبها انفجار للسلوكيات السلبية، كافي في حد ذاته، لعرقلة
مسار الثورة نفسها، وعرقلة تحقيق مطالب عامة الناس. وكأن من داخل رحم المجتمع الذي ثار، ظهرت
ثورة مضادة، مثلت صراعا نفسيا واجتماعيا، داخل عامة الناس. فهم يثورون من أجل التغيير،
ويتصرفون بصورة سلبية تعوق التغيير!
وكلما شعر عامة الناس بأن المشكلات لم تحل، وأن الظواهر السلبية مازالت قائمة، اشتكوا من
أن النظام لم يسقط بعد، وإن كان رأس النظام قد سقط. ورغم أن النظام بكامله لم يسقط فعلا، إلا أن تغيير
بنية النظام تحتاج لعمل مجتمعي شامل، ولكن عامة الناس ظلت تربط توقف مسار التغيير بعدم سقوط
النظام بالكامل، متجاهلة أن الثورة تسقط رأس النظام، والعمل الإيجابي الفعال هو الذي يغير بنية النظام،
أما الاستمرار في الاحتجاج فلا يكفي لتغيير بنية النظام السابق.

جميع الحقوق محفوظه © أيديا زيد | فكرة سريعة

تصميم الورشه