الورقة الثانية / الثورة تنتج مضادات الثورة لأن الثورة الشعبية هي فعل جماعي تلقائي عام، ليس له مسار محددة، لذا فإن الثورة عندما تنجح في اسقاط النظام، تفتح الباب أمام مستقبل غير محدد المعالم، ليس له مشروع أو مسار محدد، وليس له نتائج معروفة مسبقا. ولأن الثورة شعبية عامة، لذا لا يوجد من ينتمي للثورة ومن لا ينتمي لها بصورة واضحة أو محددة، ولا يوجد تصور واحد يجمع كل من شارك فيها. فهي إذن ثورة بلا خطة، لأنها ثورة شعبية بلا قيادة وبلا توجه سياسي محدد. ولأن الثورة شعبية، فهي ليست مثل الثورات الطبقية أو الفئوية، فهي ثورة لا تقودها طبقة ضد طبقة أخرى، ولا تقودها شرائح في المجتمع ضد شرائح أخرى، بل هي ثورة شعب ضد الحاكم. لهذا لم يكن للثورة توجه اجتماعي ثقافي بعينه، ولم تكن نتاج رؤية اجتماعية أو سياسية محددة. ولكن المشكلة ليست فقط في طبيعة الثورة، بل في الحالة التي وصل لها المجتمع قبل الثورة. فصحيح أن ما شاع في المجتمع هو نتيجة سياسات النظام السابق، وصحيح أيضا أن تردي احوال المعيشة أدى إلى شيوع السلبيات في المجتمع، بل وصحيح أيضا أن الانهيار الكامل للمرافق والخدمات ولدور الدولة، تسبب في شيوع المظالم لدرجة أثرت على وحدة المجتمع، وأشاعت فيه حالة من الاحتقان والفرقة، ولكن من الصحيح أيضا أن تلك الحالة لم تعد حالة عابرة، بل تأصلت في أنماط السلوك العام، مما جعل السلوك السلبي منتشرا لحد يفوق الأوضاع العادية، لدرجة تجعل السلبيات غالبة في أحيان كثيرة، وتجعل الإيجابيات نادرة. فلم يعد المجتمع قبل الثورة، مجرد مجتمع يعاني من ظلم الحاكم، بل أصبح مجتمعا يعاني من أمراض التردي والتأخر، ومصابا بسلبيات نفسية واجتماعية وثقافية، أصبحت تمثل أمراضا مزمنة، لأنها استمرت لعدة عقود متتالية. ولم يكن خروج المجتمع على النظام فقط، بل خرج المجتمع أيضا ضد الأمراض التي أصيب بها، لدرجة أنه تصور أنه تخلص منها، وعاش أيام بهذا الاعتقاد، ثم أكتشف أن تلك الأمراض أصبحت من أنماط السلوك العادي واليومي. وعندما يعود بعض الناس أو أغلبهم لسلوكهم السلبي الذي مارسوه قبل الثورة، تجدهم يلومون الثورة التي لم تحقق شيئا، بل هددت حياتهم. ولم يعد من الواضح من أيد الثورة ومن لم يؤيدها، ولم يعد من الواضح أيضا، من مع الثورة ومن ضدها. والغالب، أن من مع الثورة هو أيضا ضدها أحيانا. ومن هو ضد الثورة، هو معها أحيانا. ففي داخل كل فرد توجه مع الثورة، وتوجه ضدها في نفس الوقت، مع اختلاف درجة تأييد الثورة، ودرجة معارضتها من شخص لآخر. فهناك من هو عن وعي ضد الثورة، حتى وإن تصرف بشكل يؤيدها، وهناك من هو عن وعي مع الثورة، حتى وإن تصرف بشكل يجهضها. وتلك حالة غريبة عن الثورات التقليدية، ولكنها تمثل جزءا من طبيعة الثورة الشعبية التلقائية، لأن الثورة الشعبية الكاملة، تأتي متأخرة غالبا، وبعد أن يصيب المجتمع التردي الكامل. فهي ثورة تمثل لحظة غضب واسع، في لحظة انهيار كامل. لذلك تشكلت مضادات الثورة داخل بنية المجتمع نفسه، بمجرد سقوط النظام. فهذه المضادات تمثلت في الرغبة في حماية الذات، أو الرغبة في تحقيق المطالب الخاصة، كما تمثلت في حالة الخوف من المستقبل، وعدم الثقة في المستقبل. فأصبحت حالة عدم اليقين، تجاه ما حدث، وما سيحدث بعد ذلك، تمثل حالة خوف أو قلق وتوتر داخلي، تدفع لتشكيل مضادات نفسية واجتماعية، ضد حدث الثورة وما يمكن أن ينتج عنه. فيصبح كل فرد مع الثورة بقدر ما تحقق الأفضل، وضدها عندما يجد أن ما يتحقق ليس أفضل. وتغلب المضادات المعادية للثورة في الفئات التي لم تؤيد الثورة، وترى أنها من ضحايا الثورة. وتغلب التوجهات المؤيدة للثورة، لدى الفئات التي ترى أنها من ضحايا النظام السابق. كما تغلب التوجهات السلبية تجاه الثورة، بقدر الضرر الذي يلحق بفرد أو فئة نتيجة توابع الثورة. فأصبحت مضادات الثورة، هي حالة التشكك في ما يمكن أن يحدث، والتي لا تجعل الناس أو أغلبهم، يقبلون على التغيير كل الوقت، ويحاولون تحقيقه كل الوقت أيضا. ويبدو أن تلك المضادات المتشكلة ضد الثورة، مثلت نوعا من التبرير الذاتي، حيث يحاول عامة الناس تبرير سلوكياتهم السلبية، التي انتشرت قبل الثورة، ثم عادت كما هي بعد الثورة، وربما بصورة أشد. مما جعل عملية التبرير الداخلي، حيث يحاول الفرد تبرير تصرفه بعد الثورة بنفس الأسلوب السلبي الذي مارسه قبل الثورة، تتحول إلى حالة نقد داخلي للثورة، التي لم تحقق مطالب الناس، ولم تحسن حياتهم، مما يشكل توجهات ضد الثورة، تتشكل في تلك المضادات، التي تعيق الثورة. وتلك الحالة من البلبلة الداخلية، والتي استغلتها العديد من الأطراف، جعلت الرأي العام، وأن توحد من أجل اسقاط النظام، وتوحد حول هدف بناء مستقبل جديد، إلا أنه لم يتوحد حول أي تصور للمستقبل، ولم يتوحد حول موقف إيجابي لصنع المستقبل. فأصبح المجتمع ثائرا، وفي موقف المشاهد السلبي في نفس الوقت. فاستعاد موقفه السلبي القديم، تجاه أمور الحياة اليومية، وتجاه تصرفاته وتصرفات الآخرين، رغم أنه أبقى حالة الثورة، ولكن ضد أي سلطة، وليس ضد كل ما تمثله حالة التردي من سلبيات، ليس فقط في السلطة والدولة، بل وفي المجتمع أيضا.
سقوط آخر رادع
إذا كانت السلوكيات السلبية زادت بعد الثورة، كما يبدو لأي ملاحظ؛ فلأن سقوط النظام لم يدفع نحو التغيير الاجتماعي، ولكنه غيب آخر رادع كان يحجم السلوكيات السلبية لعامة الناس، وهو هيبة الدولة. فأصبحنا أمام مشكلة إضافية، لأن سقوط ما تبقى من هيبة الدولة والقانون والشرطة، فجر السلوكيات السلبية بأكثر مما كانت قبل الثورة. ولأن السلبيات تتفاقم في المجتمع مع غياب القانون والعدل، وانتشار الاستبداد والفساد والظلم، فإن اسقاط النظام غيب ما بقى من نظام، فأدى هذا إلى انفلات سلوكي واضح. فالثورة لم تنتج نظاما جديدا، بقدر ما اسقطت نظاما، وبالتالي دخلت البلاد في مرحلة ما بين نظامين، وهي مرحلة تؤدي إلى انفلات عام. ولكن هذا الانفلات يدل أيضا، على أن الثورة لم تمثل صحوة اجتماعية، لأن الناس أسقطت النظام الذي ترفضه، ولكنها لم تلزم نفسها بضوابط جديدة، تمثل ما يريده عامة الناس في المستقبل، بل ربما مثل اسقاط النظام، انفجار سلوكي غير منضبط، جعل الأوضاع السلوكية العامة تتردى أكثر.
دعم الدولة العميقة استمرار السلبيات السلوكية لدى قطاعات واسعة من المجتمع، مثل دعما مهما للدولة العميقة، أي لشبكة مصالح النظام السابق. حيث أن حالة الانفلات المجتمعي، تضعف المجتمع، وتمنعه من التوجه نحوالمستقبل، وإحداث تغيير حقيقي في الدولة والمجتمع. ولأن الدولة العميقة تعيش على حالة التردي والضعف المجتمعي، لذا أصبح استمرار انتشار السلبيات الاجتماعية، يمثل مناخا مناسبا، يدعم الدولة العميقة في محاولتها إعادة إنتاج النظام السابق. فالبيئة الفاسدة نسبيا، هي نتاج النظام السابق، وقد اسهم بالدور الأساسي في تشكليها، حتى يستطيع حماية نظام الاستبداد والفساد، لذا أصبح استمرار هذه البيئة، بأي درجة ملحوظة ومؤثرة، يمثل مناخا مناسبا لعمل الدولة العميقة، وتستطيع من خلاله تشجيع الاتجاهات المضادة للثورة، حتى تستطيع الحفاظ على النظام السابق، حتى بعد سقوط رأسه. لذا عمدت أجهزة الدولة العميقة على تعميق حالة الخوف من المستقبل، وحالة التوتر والقلق، وعمدت أيضا على توسيع نطاق المتضررين من الثورة، وتوسيع حالة الرفض الشعبي تجاه الثورة، حتى تبقى الدولة العميقة مسيطرة على مجتمع ضعيف وحالته متردية. فمسار الثورة لا يمكن استكماله، إلا بقدر قدرة المجتمع، الذي اسقط النظام، على الاستمرار في دفع عملية التغيير الحقيقية. يضاف لهذا، أن تزايد عدم رغبة عامة الناس أو بعضهم، تغيير سلوكهم، يعني ضمنا أننا بصدد مجتمع لم تتشكل لديه رغبة في تغيير نفسه، وبصدد جزء مهم من عامة الناس، لم تتشكل لديهم الرغبة في تغيير أنفسهم. مما يعني أن عامة الناس التي خرجت لتغيير النظام، لم تتشكل لديها الرغبة في تغيير نفسها، وتغيير المجتمع. ولا يمكن تغيير النظام السياسي والدولة، بدون تغيير المجتمع وعامة الناس. فإذا كان النظام السياسي الفاسد قد أنتج مجتمعا ضعيفا وحالته متردية وتنتشر فيه السلوكيات السلبية، فإن بقاء المجتمع على حالته المتردية يساعد على إعادة إنتاج النظام السياسي الفاسد.
في انتظار الحكم الجديد ليست هذه كل تناقضات الموقف، فوجود توجهات مع الثورة وضدها في نفس الوقت، داخل المجتمع وداخل نفس الأفراد أحيانا، يتجلى في مشهد الانتخابات، حيث يقبل الناس على انتخاب السلطة الجديدة، ويعقدون الآمال عليها، وكأنهم ينتخبون المخلص الجديد. ولكن أحدا لا يدرك أن التغيير هو مسئولية جماعية، وأنه لا توجد سلطة يمكنها أن تحقق التغيير والإصلاح الكامل، بدون جهد جماعي من كل المؤسسات والجماعات والأفراد. فإصلاح جهاز الدولة، يعني إصلاح السلوكيات الوظيفية لكل العاملين به، وهو أمر يحتاج لمبادرات فردية وجماعية من العاملين أنفسهم، تساعد السلطة السياسية على تحقيق تغيير جذري، يحقق ما يريده عامة الناس. ولكن أن يخرج الناس لانتخاب من يمثلهم، ويروا أن كل المسئولية عليه، وليس عليهم أي مسئولية، فمعنى هذا أنهم يبحثون عن من يقوم بكل ما يريدون. والمشكلة أن جزءا مهما من أي تغيير يتمثل في تغيير المجتمع، وتغيير سلوكيات الأفراد، والسلطة السياسية ليس دورها تغيير المجتمع والأفراد، حتى وإن كان من دور الدولة وضع النظام العام وتطبيق القانون. فالنظام العام لا يتحقق بقوة القانون فقط، بل بالوازع الداخلي أساسا، ثم يقوم القانون بالتصدي لمن لا يردعهم الوازع الداخلي. أما إذا انتشرت حالة من الانفلات السلوكي والأخلاقي العامة، فإن الدولة أو أي سلطة منتخبة لا تستطيع التصدي لتلك الحالة، بدون وجود حالة إفاقة وصحوة مجتمعية. وإذا استطاعت السلطة السياسية تحقيق كل ما يحلم به الناس، دون أي مجهود أو فعل إيجابي من عامة الناس أنفسهم، سوف تصبح السلطة السياسية وبالتالي الدولة أقوى من المجتمع، ويحدث الخلل مرة